عندما يصبح الشرّ الأصغر أكبر خيانة: لماذا لا يمكنني التصويت لقاتل “أقل دموية” ـ بقلم وسام شرف الدين

إذا كان لا بد من قتل أحد، فليكن القتل الأقل ضررًا، هكذا يختصر منطق “الشر الأقل” أزمة الخيارات الأخلاقية في زمن الأزمات. لكن ماذا لو كانت كل الخيارات شريرة؟ وماذا لو أصبح استخدام هذا المنطق أداة لتطبيع الإبادة الجماعية والفساد السياسي؟

من أشهر الأمثلة الفلسفية على المعضلات الأخلاقية ما يُعرف بـ”مأزق القطار” : قطار منفلت يؤدي مساره لقتل خمسة أشخاص، ويمكن إنقاذهم فقط عبر تحويل مساره نحو سكة أخرى يربض عليها عامل بريء. فهل من الجائز أخلاقيًا التضحية بواحد لإنقاذ خمسة؟

هذا السؤال – الذي يبدو نظريًا ومجردًا – وجد نفسه في قلب السياسة الأمريكية، وتحديدًا في موسم الانتخابات الرئاسية السابقة، حيث يُطلب من المواطن أن يختار دائمًا “الأقل سوءًا” بين حزبين يدعمان الحروب، ويُديران ظهرهما للعدالة الدولية، ويُغرقان الداخل الأمريكي في أزمات الفقر والتمييز والعنصرية.

فهل يملك المواطن خيارًا حقيقيًا؟ أم أنه مجرد مُشغّل تلقائي للقطار، يختار الضحية فقط؟


الفلسفة تدخل صندوق الاقتراع

The Philosophical Quarterly في ورقة بحثية نُشرت عام 2018 في مجلة

بعنوان: “تبريرات الشر الأدنى: لماذا يُطلب منا تحريك السكة؟“،ـ

تدافع الفيلسوفة البريطانية هيلين فرووي عن ما تسميه “أطروحة الالتزام”. ووفقًا لهذه الأطروحة، فإن من يجد نفسه في موقع المسؤولية لإنقاذ أرواح، يجب عليه أن يتدخل، حتى إن أدى ذلك إلى إلحاق ضرر جزئي، بشرط ألا يكون ذلك انتهاكًا فادحًا لحقوق شخص آخر أو على حساب تكلفة غير معقولة يتحملها الفاعل.ـ

لكن فرووي تُفرّق بحذر بين تبرير الضرر وتحويله إلى عرف أخلاقي دائم. فالقاعدة تُستخدم في حالات الإنقاذ القصوى، لا كمظلة لتبرير القتل المنهجي باسم الواقعية.ـ

وهنا تبدأ المفارقة الموجعة:ـ
في السياسة الأمريكية، يتم استخدام مبدأ “الشر الأدنى” كأداة دعائية دائمة، وليس كاستثناء. فيُطلب من الناخب التصويت لحزب يدعم الحروب، لمنع وصول حزب آخر… يدعم الحروب بأسلوب أكثر فجاجة. وتُغطى هذه الخيانة السياسية بألوان الوطنية والخوف والواقعية السياسية.ـ


حين يكون القتل سياسة الحزبين

لنأخذ مثالًا حيًا:ـ

في عام 2023، دعمت الإدارة الديمقراطية بقيادة بايدن آلة الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، رغم التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش التي وثّقت الاستخدام الواسع للقوة المفرطة ضد المدنيين، مما أصبح باعتراف المنظمات العالمية الحقوقية أجمع … من أسوء الإبادات الجماعية في التاريخ.ـ

وفي المقابل، يدعم الحزب الجمهوري هذه الإبادة بصوت أعلى وبأسلوب أوقح، ومبالغة في التوحّش والعنصرية، وتلذذ بالفوقية والتفريط في دماء الأبرياء، مُلبّسًا إياها لباس العقيدة والردع و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.ـ

والنتيجة؟
مجازر تُرتكب، وأموال الضرائب الأمريكية تُستخدم لتسليح القاتل، بينما يُطلب من المواطن الاختيار بين وجهين للرصاصة ذاتها.ـ


الحزب الأخضر: الخيار الأخلاقي المُستبعَد

وسط هذه الثنائية القاتلة، يبرز الحزب الأخضر الأمريكي كالصوت الأخلاقي الوحيد الذي يُقصى عن الساحة الانتخابية:ـ

هو الحزب الملتزم أخلاقياً برفض التمويل من الشركات الكبرى.و يدعو لوقف كافة أشكال الاحتلال والإبادة، ويُطالب بتأميم الرعاية الصحية والتعليم.ويُعارض بشدة كل الحروب الأمريكية الخارجية، ويدين الإبادة الجماعية في غزة وتورط الإدارة الأمريكية بها.ـ

لكن الإعلام يصوّره كـ”غير واقعي”، وتُمنع مشاركته في المناظرات الرئاسية، ويُحرم من التمويل العام، رغم استحقاقه. لماذا؟
لأنه ببساطة لا يُخدّم منظومة الفساد المالي والعسكري التي تتحكم بالمشهد السياسي.


الامتناع كفعل سياسي

في ظل هذا الواقع، يصبح الامتناع عن التصويت للحزبين الكبيرين والتصويت للحزب الأخضر أو الامتناع عن التصويت موقفًا سياسيًا أخلاقيًا وليس انسحابًا. إنه إعلان صريح:ـ
“لن أكون شريكًا في القتل، حتى لو كان “أقلّ” عددًا.”

التمسّك بالضمير لا يعني الانعزال، بل رفض الانخراط في مؤامرة الاختيار الزائف. وإذا كانت الأصوات الأخلاقية تُقصى، فذلك لا يعني أنها ضعيفة. بل يعني أنها خطيرة على النظام لأنها تكشف عورته.ـ


الخاتمة: لا لقيادة قطار الإبادة

في فلسفة “الشر الأقل”، قد يُطلب منك أن تُقرر من يموت. لكن في السياسة الأمريكية، الخيار الحقيقي ليس بين “واحد أو خمسة”، بل بين أن تكون مشاركًا في القتل، أو شاهدًا يرفض المشاركة في الجريمة.ـ

لن أختار قاتلًا، مهما كان الخيار الثاني أشد قتلاً.ـ
لن أقود قطار الموت، ولو صوّروا لي أنه الحل الوحيد.ـ
ولن أُسلّم صوتي لنظامٍ يطالبني بالواقعية، ثم يكمم صوتي و يُلقي بجثث الأبرياء في النهر.ـ


📌 وسام شرف الدين كاتب وناشط ومؤسس لعدة منظمات فكرية في الولايات المتحدة.
📚 المصدر الفلسفي: Helen Frowe, Lesser-Evil Justifications for Harming: Why We’re Required to Turn the Trolley, The Philosophical Quarterly, 2018. رابط

📎 مصادر أخرى:

https://www.gp.org

https://www.hrw.org

https://www.amnesty.org

https://www.congress.gov/bill/118th-congress/house-bill/8369

Please, leave a comment...

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.